تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 175 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 175

175 : تفسير الصفحة رقم 175 من القرآن الكريم

** قُل لاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسّنِيَ السّوَءُ إِنْ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه, وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه, كما قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد} الاَية. وقوله {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} قال: لو كنت أعلم متى أموت لعملت عملاً صالحاً, وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد, وقال مثله ابن جريج, وفيه نظر لأن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ديمة, وفي رواية: كان إذا عمل عملاً أثبته, فجميع عمله كان على منوال واحد كأنه ينظر إلى الله عز وجل في جميع أحواله, اللهم إلا أن يكون المراد أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك, والله أعلم. والأحسن في هذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} أي من المال. وفي رواية: لعلمت إذا اشتريت شيئاً ما أربح فيه, فلا أبيع شيئاً إلا ربحت فيه {وما مسنيَ السوء} ولا يصيبني الفقر. وقال ابن جرير: وقال آخرون: معنى ذلك لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ولوقت الغلاء من الرخص, فاستعددت له من الرخص, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {وما مسني السوء} قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته, ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير, أي نذير من العذاب وبشير للمؤمنين بالجنات, كما قال تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لد}.

** هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماّ تَغَشّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرّتْ بِهِ فَلَمّآ أَثْقَلَتْ دّعَوَا اللّهَ رَبّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لّنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ * فَلَمّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ
ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم عليه السلام. وأنه خلق منه زوجته حواء ثم انتشر الناس منهما, كما قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وقال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجه} الاَية, وقال في هذا الاَية الكريمة {وجعل منها زوجها ليسكن إليه} أي ليألفها ويسكن بها, كقوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} فلا ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين, ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه {فلما تغشاه} أي وطئها {حملت حملاً خفيف} وذلك أول الحمل لا تجد المرأة له ألماً, إنما هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة.
وقوله {فمرت به} قال مجاهد: استمرت بحمله, وروي عن الحسن وإبراهيم النخعي والسدي نحوه, وقال ميمون بن مهران عن أبيه: استخفته. وقال أيوب: سألت الحسن عن قوله {فمرت به} قال: لو كنت رجلاً عربياً لعرفت ما هي إنما هي فاستمرت به, وقال قتادة {فمرت به} استبان حملها. وقال ابن جرير: معناه استمرت بالماء قامت به وقعدت. وقال العوفي عن ابن عباس: استمرت به فشكت أحملت أم لا ؟ {فلما أثقلت} أي صارت ذات ثقل بحملها. وقال السدي: كبر الولد في بطنها {دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالح} أي بشراً سوياً, كما قال الضحاك عن ابن عباس: أشفقا أن يكون بهيمة, وكذلك قال أبو البختري وأبو مالك: أشفقا أن لا يكون إنساناً.
وقال الحسن البصري: لئن آتيتنا غلاماً {لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون} يذكر المفسرون ههنا آثاراً وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها, ثم نتبع ذلك ببيان الصحيح في ذلك إن شاء الله وبه الثقة, قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الصمد: حدثنا عمر بن إبراهيم, حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لما ولدت حواء طاف بها إبليس, وكان لا يعيش لها ولد, فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش, فسمته عبد الحارث فعاش, وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن)بشار عن بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به, ورواه الترمذي في تفسير هذه الاَية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به, وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم, ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه, ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعاً, ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجاه. ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعاً.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض عن عمر بن إبراهيم مرفوعاً, قلت: وشاذ هو هلال, وشاذ لقبه, والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه (أحدها) أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري وقد وثقه ابن معين, ولكن قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به, ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعاً, فالله أعلم. (الثاني) أنه قد روي من قول سمرة نفسه ليس مرفوعاً, كما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا المعتمر عن أبيه, حدثنا بكر بن عبد الله بن سليمان التيمي عن أبي العلاء بن الشخير عن سمرة بن جندب قال: سمى آدم ابنه عبد الحارث. (الثالث) أن الحسن نفسه فسر الاَية بغير هذا, فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعاً لما عدل عنه. قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن {جعلا له شركاء فيما آتاهم} قال: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم.
وحدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: قال الحسن: عنى بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده يعني {جعلا له شركاء فيما آتاهم}. وحدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول هم اليهود, والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا, وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الاَية بذلك, وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الاَية, ولو كان هذا الحديث عنده محفوظاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره ولا سيما مع تقواه لله وورعه, فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي, ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل كعب أو وهب بن منبه وغيرهما, كما سيأتي بيانه إن شاء الله إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع, والله أعلم.
فأما الاَثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت حواء تلد لاَدم عليه السلام أولاداً فيعبدهم لله ويسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك, فيصيبهم الموت, فأتاهما إبليس فقال: إنكما لو سميتماه بغير الذي تسميانه به لعاش, قال: فولدت له رجلاً فسماه عبد الحارث, ففيه أنزل الله يقول {هو الذي خلقكم من نفس واحدة ـ إلى قوله ـ جعلا له شركاء فيما آتاهم} إلى آخر الاَية, وقال العوفي عن ابن عباس قوله في آدم {هو الذي خلقكم من نفس واحدة ـ إلى قوله ـ فمرت به} شكت أحملت أم لا ؟ {فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين} فأتاهما الشيطان, فقال: هل تدريان ما يولد لكم ؟ أم هل تدريان ما يكون أبهيمة أم لا ؟ وزين لهما الباطل, إنه غوي مبين, وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا, فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سوياً ومات كما مات الأول, فسميا ولدهما عبد الحارث, فذلك قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهم} الاَية.
وقال عبد الله بن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهم} قال: قال الله تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاه} آدم {حملت} فأتاهما إبليس لعنه الله فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني إبل فيخرج من بطنك فيشقه, ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما, فسمياه عبد الحارث فأبيا أن يطيعاه, فخرج ميتاً, ثم حملت الثانية فأتاهما أيضاً فقال: أنا صحاحبكما الذي فعلت ما فعلت لتفعلن أو لأفعلن ـ يخوفهما ـ فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً, ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضاً فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث, فذلك قوله تعالى: {جعلا له شركاء فيما آتاهم} رواه ابن أبي حاتم.
وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة, ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف, ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة, وكأنه ـ والله أعلم ـ أصله مأخوذ من أهل الكتاب, فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب, كما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الجماهر, حدثنا سعيد يعني ابن بشير عن عقبة عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها: أتطيعيني ويسلم لك ولدك, سميه عبد الحارث, فلم تفعل, فولد فمات, ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل, ثم حملت الثالثة فجاءها فقال: إن تطيعيني يسلم وإلا فإنه يكون بهيمة, فهيبهما فأطاعا.
وهذه الاَثار يظهر عليها ـ والله أعلم ـ أنها من آثار أهل الكتاب, وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام, فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله, ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضاً, ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» وهو الذي لا يصدق ولا يكذب لقوله «فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» وهذا الأثر هو من القسم الثاني أو الثالث فيه نظر, فأما من حدث به من صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث, وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا, وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء, وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته, وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس, كقوله {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} الاَية, ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها, وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها, ولهذا نظائر في القرآن, والله أعلم.

** أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىَ لاَ يَتّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ * إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنّ وَلِيّـيَ اللّهُ الّذِي نَزّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ * وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىَ لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان, وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة, لا تملك شيئاً من الأمر ولا تضر ولا تنفع, ولا تبصر ولا تنتصر لعابديها, بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر, وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم, ولهذا قال: {أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون} أي أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئاً ولا يستطيع ذلك, كقوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز} أخبر تعالى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا خلق ذبابة بل لو سلبتهم الذبابة شيئاً من حقير المطاعم وطارت, لما استطاعوا إنقاذه منها, فمن هذه صفته وحاله كيف يعبد ليرزق ويستنصر ؟ ولهذا قال تعالى: {لا يخلق شيئاً وهم يخلقون} أي بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل {أتعبدون ما تنحتون} الاَية.
ثم قال تعالى: {ولايستطيعون لهم نصر} أي لعابديهم {ولا أنفسهم ينصرون} يعني ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء, كما كان الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه ويهينها غاية الإهانة كما أخبر تعالى عنه في قوله: {فراغ عليهم ضرباً باليمين} وقال تعالى: {فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون} وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما, وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطباً للأرامل ليعتبر قومهما بذلك ويرتؤوا لأنفسهم, فكان لعمرو بن الجموح وكان سيداً في قومه صنم يعبده ويطيبه, فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة, فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به, فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفاً ويقول له: انتصر, ثم يعودان لمثل ذلك, ويعود إلى صنيعه أيضاً, حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت, ودلياه في حبل في بئر هناك, فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل, وقال:
تالله لو كنت إلهاً مستدنلم تك والكلب جميعاً في قرن
ثم أسلم فحسن إسلامه, وقتل يوم أحد شهيداً رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنة الفردوس مأواه, وقوله {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم} الاَية, يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها, وسواء لديها من دعاها ومن دحاها, كما قال إبراهيم {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئ} ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها أي مخلوقات مثلهم, بل الأناس أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش, وتلك لا تفعل شيئاً من ذلك, وقوله {قل ادعوا شركاءكم} الاَية, أي استنصروا بها علي فلا تؤخروني طرفة عين, واجهدوا جهدكم {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} أي الله حسبي وكافيّ, وهو نصيري وعليه متكلي وإليه ألجأ, وهو وليي في الدنيا والاَخرة وهو ولي كل صالح بعدي وهذا كما قال هود عليه السلام لما قال له قومه {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} وكقول الخليل {أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين} الاَيات, وكقوله لأبيه وقومه {إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبة لعلهم يرجعون}.
وقوله {والذين تدعون من دونه} إلى آخر الاَية, مؤكد لما تقدم إلا أنه بصيغة الخطاب وذلك بصيغة الغيبة, ولهذا قال {لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون}, وقوله {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} كقوله تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} الاَية. وقوله {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} إنما قال {ينظرون إليك} أي يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي جماد, ولهذا عاملهم معاملة من يعقل لأنها على صورة مصورة كالإنسان وتراهم ينظرون إليك, فعبر عنها بضمير من يعقل, وقال السدي: المراد بهذا المشركون, وروي عن مجاهد نحوه, والأول أولى, وهو اختيار ابن جرير, وقاله قتادة.